الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وإن قيل: إنه لا يمسح عليها من الجنابة حتي يشدها على الطهارة، كان هذا قولًا بلا أصل يقاس عليه، وهو ضعيف جدًا. وإن قيل: بل إذا شدها على الطهارة من الجنابة مسح عليها بخلاف ما إذا شدها وهو جنب. قيل: هو محتاج إلى شدها على الطهارة من الجنابة، فإنه قد يجنب ـ والماء يضر جراحه ويضر العظم المكسور ويضر الفصاد ـ فيحتاج حينئذ أن يشده بعد الجنابة ثم يمسح عليها. وهذه من أحسن المسائل. والمقصود هنا: أن مسح الخف لا يستوعب فيه الخف، بل يجزئ فيه مسح بعضه كما وردت به السنة، وهو مذهب الفقهاء قاطبة، فعلم بذلك أنه ليس كل ما بطن من القدم مسح ما يليه من الخف، بل إذا مسح ظهر القدم كان هذا المسح مجزئًا عن باطن القدم وعن العقب. /وحينئذ، فإذا كان الخرق في موضع ومسح موضعًا آخر، كان ذلك مسحًا مجزئًا عن غسل جميع القدم، لاسيما إذا كان الخرق في مؤخر الخف وأسفله، فإن مسح ذلك الموضع لا يجب ولا يستحب، ولو كان الخرق في المقدم فالمسح خطوط بين الأصابع. فإن قيل: مرادنا أن ما بطن يجزئ عنه المسح،وما ظهر يجب غسله. قيل: هذا دعوي محل النزاع فلا تكون حجة، فلا نسلم أن ما ظهر من الخف المخرق فرضه غسله، فهذا رأس المسألة، فمن احتج به كان مثبتًا للشيء بنفسه. وإن قالوا بأن المسح إنما يكون على مستور أو مغطي ونحو ذلك، كانت هذه كلها عبارات عن معني واحد، وهو دعوي رأس المسألة بلا حجة أصلًا، والشارع أمرنا بالمسح على الخفين مطلقًا ولم يقيده، والقياس يقتضي: أنه لا يقيد. والمسح على الخفين قد اشترط فيه طائفة من الفقهاء شرطين: هذا أحدهما: وهو أن يكون ساترًا لمحل الفرض. وقد تبين ضعف هذا الشرط. /والثاني: أن يكون الخف يثبت بنفسه.وقد اشترط ذلك الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، فلو لم يثبت إلا بشده بشيء يسير أو خيط متصل به أو منفصل عنه ونحو ذلك، لم يمسح، وإن ثبت بنفسه لكنه لا يستر جميع المحل إلا بالشد ـ كالزربول الطويل المشقوق، يثبت بنفسه لكن لا يستر إلى الكعبين إلا بالشد ـ ففيه وجهان أصحهما: أنه يمسح عليه. وهذا الشرط لا أصل له في كلام أحمد، بل المنصوص عنه ـ في غير موضع ـ أنه يجوز المسح على الجوربين وإن لم يثبتا بأنفسهما، بل بنعلين تحتهما،وأنه يمسح على الجوربين ما لم يخلع النعلين. فإذا كان أحمد لا يشترط في الجوربين أن يثبتا بأنفسهما بل إذا ثبتا بالنعلين جاز المسح عليهما، فغيرهما بطريق الأولى، وهنا قد ثبتا بالنعلين وهما منفصلان عن الجوربين. فإذا ثبت الجوربان بشدهما بخيوطهما كان المسح عليهما أولى بالجواز. وإذا كان هذا في الجوربين: فالزربول الذي لا يثبت إلا بسير يشده به متصلًا به أو منفصلًا عنه أولى بالمسح عليه من الجوربين. وهكذا ما يلبس على الرجل من فرو وقطن وغيرهما: إذا ثبت ذلك بشدهما بخيط متصل أو منفصل مسح عليهما بطريق الأولى. فإن قيل: فيلزم من ذلك جواز المسح على اللفائف، وهو: أن/ يلف على الرجل لفائف من البرد أو خوف الحفاء أو من جراح بهما ونحو ذلك. قيل: في هذا وجهان، ذكرهما الحلواني. والصواب أنه يمسح على اللفائف، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب، فإن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة وفي نزعها ضرر: إما إصابة البرد، وإما التأذي بالحفاء، وإما التأذي بالجرح. فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين فعلى اللفائف بطريق الأولى. ومن ادعي في شيء من ذلك إجماعًا، فليس معه إلا عدم العلم، ولا يمكنه أن ينقل المنع من عشرة من العلماء المشهورين فضلًا عن الإجماع والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره، وذلك أن أصل المسح على الخفين خفي على كثير من السلف والخلف، حتي أن طائفة من الصحابة أنكروه، وطائفة من فقهاء أهل المدينة وأهل البيت أنكروه مطلقًا، وهو رواية عن مالك، والمشهور عنه جوازه في السفر دون الحضر. وقد صَنَّف الإمام أحمد كتابًا كبيرًا في [الأشربة] في تحريم المسكر ولم يذكر فيه خلافًا عن الصحابة، فقيل له في ذلك فقال: هذا صح فيه الخلاف عن الصحابة بخلاف المسكر. ومالك ـ مع سعة علمه وعلو/ قدره ـ قال في [كتاب السر]: لأقولن قولًا لم أقله قبل ذلك في علانية. وتكلم بكلام مضمونه إنكاره: إما مطلقًا، وإما في الحضر. وخالفه أصحابه في ذلك، وقال ابن وهب: هذا ضعف له حيث لم يقله قبل ذلك علانية. والذين جوزوه منع كثير منهم من المسح على الجرموقين الملبوسين على الخفين. والثلاثة منعوا المسح على الجوربين وعلى العمامة، فعلم أن هذا الباب مما هابه كثير من السلف والخلف، حيث كان الغسل هو الفرض الظاهر المعلوم، فصاروا يجوزون المسح حيث يظهر ظهورًا لا حيلة فيه، ولا يطردون فيه قياسًا صحيحًا ولا يتمسكون بظاهر النص المبيح، وإلا فمن تدبر ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطي القياس حقه، علم أن الرخصة منه في هذا الباب واسعة، وأن ذلك من محاسن الشريعة ومن الحنيفية السمحة التي بعث بها. وقد كانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تمسح على خمارها، فهل تفعل ذلك بدون إذنه؟! وكان أبو موسى الأشعري وأنس بن مالك يمسحان على القلانس؛ ولهذا جوز أحمد هذا وهذا في إحدى الروايتين عنه، وجوز ـ أيضًا ـ المسح على العمامة ؛ لكن أبو عبد الله ابن حامد رأي أن العمامة التي ليست محنكة، المقتطعة، كان أحمد يكره لبسها، وكذا مالك يكره لبسها ـ أيضًا ـ لما جاء/ في ذلك من الآثار، وشرط في المسح عليها أن تكون محنكة. واتبعه على ذلك القاضي وأتباعه، وذكروا فيها ـ إذا كان لها ذؤابة ـ وجهين. وقال بعض أصحاب أحمد: إذا كان أحمد في إحدى الروايتين يجوز المسح على القلانس الدنيات ـ وهي القلانس الكبار ـ فلأن يجوز ذلك على العمامة بطريق الأولى والأحرى. والسلف كانوا يحنكون عمائمهم لأنهم كانوا يركبون الخيل ويجاهدون في سبيل الله، فإن لم يربطوا العمائم بالتحنيك وإلا سقطت ولم يمكن معها طرد الخيل؛ ولهذا ذكر أحمد عن أهل الشام أنهم كانوا يحافظون على هذه السنة لأجل أنهم كانوا في زمنه هم المجاهدون. وذكر إسحاق بن راهويه بإسناده أن أولاد المهاجرين والأنصار كانوا يلبسون العمائم بلا تحنيك، وهذا لأنهم كانوا في الحجاز في زمن التابعين لا يجاهدون، ورخص إسحاق وغيره في لبسها بلا تحنيك. والجند المقاتلة لما احتاجوا إلى ربط عمائمهم صاروا يربطونها: إما بكلاليب، وإما بعصابة ونحو ذلك. وهذا معناه معني التحنيك، كما أن من السلف من كان يربط وسطه بطرف عمامته، والمناطق يحصل بها هذا المقصود. وفي نزع العمامة المربوطة بعصابة وكلاليب من المشقة ما في نزع المحنكة. وقد ثبت المسح على العمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه/صحيحة، لكن العلماء فيها على ثلاثة أقوال: منهم من يقول: الفرض سقط بمسح ما بدا من الرأس، والمسح على العمامة مستحب. وهذا قول الشافعي وغيره. ومنهم من يقول: بل الفرض سقط بمسح العمامة ومسح ما بدا من الرأس، كما في حديث المغيرة. وهل هو واجب لأنه فعله في حديث المغيرة، أو ليس بواجب لأنه لم يأمر به في سائر الأحاديث على روايتين. وهذا قول أحمد المشهور عنه. ومنهم من يقول: بل إنما كان المسح على العمامة لأجل الضرر، وهو ما إذا حصل بكشف الرأس ضرر من برد ومرض، فيكون من جنس المسح على الجبيرة، كما جاء: أنهم كانوا في سرية فشكوا البرد فأمرهم أن يمسحوا على التساخين والعصائب ـ والعصائب هي العمائم ـ ومعلوم أن البلاد الباردة يحتاج فيها من يمسح التساخين والعصائب ما لا يحتاج إليه في أرض الحجاز، فأهل الشام والروم ونحو هذه البلاد أحق بالرخصة في هذا وهذا من أهل الحجاز، والماشون في الأرض الحزنة والوعرة أحق بجواز المسح على الخف من الماشين في الأرض السهلة، وخفاف هؤلاء في العادة لابد أن يؤثر فيها الحجر؛ فهم برخصة المسح على الخفاف المخرقة أولى من غيرهم. /ثم المانع من ذلك يقول: إذا ظهر بعض القدم لم يجز المسح، فقد يظهر شيء يسير من القدم كموضع الخرز ـ وهذا موجود في كثير من الخفاف ـ فإن منعوا من المسح عليها ضيقوا تضييقًا يظهر خلافه للشريعة بلا حجة معهم أصلًا. فإن قيل: هذا لا يمكن غسله حتي يقولوا: فرضه الغسل. وإن قالوا: هذا يعفي عنه لم يكن لهم ضابط فيما يمنع وفيما لا يمنع. والذي يوضح هـذا أن قولهم: إذا ظهر بعض القدم إن أرادوا ظهوره للبصر فأبصار الناس ـ مع اختلاف إدراكها ـ قد يظهر لها من القدم ما لا يمكن غسله، وإن أرادوا ما يظهر ويمكن مسه بإلىد فقد يمكن غسله بلا مس وإن قالوا: ما يمكن غسله فالإمكان يختلف، قد يمكن مع الجرح ولا يمكن بدونه، فإن سم الخياط يمكن غسله إذا وضع القدم في مغمزه وصبر عليه حتي يدخل الماء في سم الخياط، مع أنه قد لا يتيقن وصول الماء عليه إلا بخضخضة ونحوها، ولا يمكن غسله كما يغسل القدم، وهذا على مذهب أحمد أقوى؛ فإنه يجوز المسح على العمامة إذا لبست على الوجه المعتاد وإن ظهر من جوان الرأس ما يمسح عليه، ولا يجب مسح ذلك. وهل يجوز المسح على الناصية مع ذلك؟ فيه عنه روايتان. فلم /يشترط في الممسوح أن يكون ساترًا لجميع محل الفرض، وأوجب الجمع بين الأصل والبدل على إحدى الروايتين. والشافعي ـ أيضًا ـ يستحب ذلك كما يستحبه أحمد في الرواية الأخرى: فعلم أن المعتبر في اللباس أن يكون على الوجه المعتاد، سواء ستر جميع محل الفرض أو لم يستره والخفاف قد اعتيد فيها أن تلبس مع الفتق والخرق وظهور بعض الرجل. وأما ما تحت الكعبين فذاك ليس بخف أصلًا، ولهذا يجوز للمحرم لبسه ـ مع القدرة على النعلين ـ في أظهر قولي العلماء كما سنذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ ونبين نسخ الأمر بالقطع، وأنه إنما أمر به حين لم يشرع البدل أيضًا. فالمقدمة الثانية من دليلهم ـ وهو قولهم: يمكن الجمع بين الأصل والبدل ـ ممنوع على أصل الشافعي وأحمد؛ فإن عندهما يجمع بين التيمم والغسل فيما إذا أمكن غسل بعض البدن دون البعض، لكون الباقي جريحًا، أو لكون الماء قليلًا، ويجمع بين مسح بعض الرأس مع العمامة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فلو قدر أن الله ـ تعالى ـ أوجب مسح الخفين كما أوجب غسل جميع البدن، أمكن أن يغسل ما ظهر ويمسح ما بطن، كما يفعل مثل ذلك في الجبيرة، فإنه إذا ربطها على بعض مكان مسح الجبيرة وغسل أو مسح ما بينهما فجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد، فتبين أن سقوط غسل ما ظهر/ من القدم لم يكن لأنه لا يجمع بين الأصل والبدل، بل لأن مسح ظهر الخف ـ ولو خطًّا بالأصابع ـ يجزئ عن جميع القدم فلا يجب غسل شيء منه، لا ما ظهر ولا ما بطن، كما أمر صاحب الشرع لأمته، إذ أمرهم إذا كانوا مسافرين ألا ينزعوا خفافهم ثلاثة أيام ولياليهن، لا من غائط ولا بول ولا نوم، فأي خف كان على أرجلهم دخل في مطلق النص. كما أن قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل ما يلبس المحرم من الثياب، فقال: (لا يلبس القميص ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما حتي يكونا أسفل من الكعبين) هكذا رواه ابن عمر، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بذلك لما كان بالمدينة ولم يكن حينئذ قد شرعت رخصة البدل، فلم يرخص لهم لا في لبس السراويل إذا لم يجدوا الإزار، ولا في لبس الخف مطلقًا. ثم إنه في عرفات بعد ذلك قال: (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفاف لمن لم يجد النعلين)، هكذا رواه ابن عباس وحديثه في الصحيحين، ورواه جابر وحديثه في مسلم، فأرخص لهم بعرفات في البدل، فأجاز لهم لبس السراويل إذا لم يجدوا الإزار بلا فتق، وعليه جمهور العلماء، فمن اشترط فتقه خالف النص. وأجاز لهم حينئذ لبس الخفين/إذا لم يجدوا النعلين بلا قطع، فمن اشترط القطع فقد خالف النص، فإن السراويل المفتوق والخف المقطوع لا يدخل في مسمي السراويل والخف عند الإطلاق، كما أن القميص إذا فتق وصار قطعًا لم يسم سراويل، وكذلك البرنس وغير ذلك. فإنما أمر بالقطع أولًا لأن رخصة البدل لم تكن شرعت، فأمرهم بالقطع حينئذ لأن المقطوع يصير كالنعلين، فإنه ليس بخف. ولهذا لا يجوز المسح عليه باتفاق المسلمن، فلم يدخل في إذنه في المسح على الخفين. ودل هذا على أن كل ما يلبس تحت الكعبين من مداس وجمجم وغيرهما ـ كالخف المقطوع تحت الكعبين ـ أولى بالجواز، فتكون إباحته أصلية كما تباح النعلان، لا أنه أبيح على طريق البدل، وإنما المباح على طريق البدل هو الخف المطلق والسراويل. ودلت نصوصه الكريمة وألفاظه الشريفة التي هي مصابيح الهدي على أمور يحتاج الناس إلى معرفتها قد تنازع فيها العلماء: منها: أنه لما أذن للمحرم إذا لم يجد النعلين يلبس الخف: إما مطلقًا، وإما مع القطع، كان ذلك إذنًا في كل ما يسمي خفًا، سواء كان سليمًا أو معيبًا. وكذلك لما أذن في المسح على الخفين كان ذلك إذنًا في كل خف، وليس المقصود قياس حكم على حكم حتي يقال: ذاك أباح له لبسه وهذا أباح المسح عليه، بل المقصود أن لفظ الخف في كلامه يتناول هذا بالإجماع، فعلم أن لفظ/ الخف يتناول هذا وهذا، فمن ادعي في أحد الموضعين أنه أراد بعض أنواع الخفاف، فعليه البيان. وإذا كان الخف في لفظه مطلقًا ـ حيث أباح لبسه للمحرم، وكل خف جاز للمحرم لبسه وإن قطعه ـ جاز له أن يمسح عليه إذا لم يقطعه. الثاني: أن المحرم إذا لم يجد نعلين ولا ما يشبه النعلين ـ من خف مقطوع أو جمجم أو مداس أو غير ذلك ـ فإنه يلبس أي خف شاء ولا يقطعه. هذا أصح قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد وغيره. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بذلك في عرفات بعد نهيه عن لبس الخف مطلقًا، وبعد أمره من لم يجد أن يقطع، ولم يأمرهم بعرفات بقطع، مع أن الذين حضروا بعرفات كان كثير منهم أو أكثرهم لم يشهدوا كلامه بالمدينة، بل حضر من مكة واليمن والبوادي وغيرها خلق عظيم حجوا معه لم يشهدوا جوابه بالمدينة على المنبر، بل أكثر الذين حجوا معه لم يشهدوا ذلك الجواب. وذلك الجواب لم يذكره ابتداء لتعلىم جميع الناس، بل سأله سائل وهو على المنبر: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما حتي يكونا أسفل من الكعبين، وابن عمر لم يسمع منه إلا هذا، كما أنه في المواقيت لم/يسمع إلا ثلاث مواقيت قوله: (أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام الجحفة، وأهل نجد قرن)، قال ابن عمر: وذكر لي ـ ولم أسمع ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل اليمن يلملم، وهذا الذي ذكر له صحيح قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس، فابن عباس أخبر: أن النبي وقت لأهل اليمن يلملم، ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم وقال: (هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتي أهل مكة من مكة)، فكان عند ابن عباس من العلم بهذه السنة ما لم يكن عند ابن عمر. وفي حديثه ذكر أربعة مواقيت، وذكر أحكام الناس كلهم إذا مروا عليها أو أحرموا من دونها. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يبلغ الدين بحسب ما أمر الله به، فلما كان أهل المدينة قد أسلموا وأسلم أهل نجد وأسلم من كان من ناحية الشام وقت الثلاث، وأهل اليمن إنما أسلموا بعد ذلك، ولهذا لم ير أكثرهم النبي صلى الله عليه وسلم بل كانوا مخضرمين، فلما أسلموا وقت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوبًا وألين أفئدة، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية). /ثم قد روي عنه أنه لما فتحت أطراف العراق وقت لهم ذات عرق، كما روى مسلم هذا من حديث جابر، لكن قال ابن الزبير فيه: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقطع به غيره. وروي ذلك من حديث عائشة، فكان ما سمعه هؤلاء أكثر مما سمعه غيرهم. وكذلك ابن عباس وجابر في ترخيصه في الخف والسراويل، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بعرفات يقول: (السراويلات لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين). وفي صحيح مسلم عن جابر: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل). فهذا كلام مبتدأ منه صلى الله عليه وسلم بين فيه في عرفات ـ وهو أعظم مجمع كان له ـ إن من لم يجد إزارًا فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين. ولم يأمر بقطع ولا فتق، وأكثر الحاضرين بعرفات لم يشهدوا خطبته وما سمعوا أمره بقطع الخفين، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فَعُلِم أن هذا الشرع الذي شرعه الله على لسانه بعرفات لم يكن شرع بعد بالمدينة، وإنه بالمدينة إنما أرخص في لبس النعلين وما يشبههما من المقطوع، فدل ذلك على أن من عدم ما يشبه الخفين يلبس الخف. /الثالث: أنه دل على أنه يلبس سراويل بلا فتق. وهو قول الجمهور والشافعي وأحمد. الرابع: أنه دل على أن المقطوع كالنعلين يجوز لبسهما مطلقًا، ولبس ما أشبههما من جمجم ومداس وغير ذلك. وهذا مذهب أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد وغيره، وبه كان يفتي جدي أبو البركات ـ رحمه الله ـ في آخر عمره لما حج. وأبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ تبين له من حديث ابن عمر: أن المقطوع لبسه أصل لا بدل له، فيجوز لبسه مطلقًا، وهذا فهم صحيح منه دون فهم من فهم أنه بدل. والثلاثة تبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في البدل وهو الخف ولبس السراويل، فمن لبس السراويل إذا عَدِمَ الأصل فلا فدية عليه، وهذا فهم صحيح. وأحمد فَهِمَ من النص المتأخر الذي شرع فيه البدلان أنه ناسخ للقطع المتقدم. وهذا فهم صحيح. وأبو حنيفة لم يبلغه هذا فأوجب الفدية على كل من لبس خفا أو سراويل إذا لم يفتقه وإن عدم، كما قال ذلك ابن عمر وغيره،/ وزاد أن الرخصة في ذلك إنما هي للحاجة، والمحرم إذا احتاج إلى محظور فعله وافتدي. وأما الأكثرون فقالوا: من لبس البدل فلا فدية عليه، كما أباح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات ولم يأمر معه بفدية ولا فتق، قالوا: والناس كلهم محتاجون إلى لبس ما يسترون به عوراتهم وما يلبسونه في أرجلهم، فالحاجة إلى ذلك عامة، وما احتاج إليه العموم لم يحظر عليهم ولم يكن عليهم فيه فدية، بخلاف ما احتيج إليه لمرض أو برد، ومن ذلك حاجة لعارض؛ ولهذا أرخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في اللباس مطلقًا من غير فدية، ونهي المحرمة عن النقاب والقفازين، فإن المرأة لما كانت محتاجة إلى ستر بدنها لم يكن عليها في ستره فدية. وكذلك حاجة الرجال إلى السراويل والخفاف إذا لم يجدوا الإزار والنعال، وابن عمر ـ رضي الله عنه ـ لما لم يسمع إلا حديث القطع أخذ بعمومه، فكان يأمر النساء بقطع الخفاف، حتي أخبروه بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للنساء في لبس ذلك، كما أنه لما سمع قوله: (لا ينفرن أحد حتي يكون آخر عهده بالبيت) أخذ بعمومه في حق الرجال والنساء، فكان يأمر الحائض ألا تنفر حتي تطوف. وكذلك زيد بن ثابت كان يقول ذلك، حتي أخبروهما أن النبي /صلى الله عليه وسلم رخص للحيض أن ينفرن بلا وداع). وتناظر في ذلك زيد وابن عباس وابن الزبير لما سمعا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير أخذًا بالعموم، فكان ابن الزبير يأمر الناس بمنع نسائهم من لبس الحرير، وكان ابن عمر ينهي عن قليله وكثيره، فينزع خيوط الحرير من الثوب. وغيرهما سمع الرخصة للحاجة، وهو الإرخاص للنساء وللرجال في اليسير وفيما يحتاجون إليه للتداوي وغيره؛ لأن ذلك حاجة عامة. وهكذا اجتهاد العلماء ـ رضي الله عنهم ـ في النصوص: يسمع أحدهم النص المطلق فيأخذ به، ولا يبلغه ما يبلغ مثله من تقييده وتخصيصه. والله لم يحرم على الناس - في الإحرام ولا غيره ـ ما يحتاجون إليه حاجة عامة، ولا أمر ـ مع هذه الرخصة في الحاجة العامة ـ أن يفسد الإنسان خفه أو سراويله بقطع أو فتق، كما أفتى بذلك ابن عباس وغيره ممن سمع السنة المتأخرة، وإنما أمر بالقطع أولًا ليصير المقطوع كالنعل، فأمر بالقطع قبل أن يشرع البدل؛ لأن المقطوع يجوز لبسه مطلقًا، وإنما قال: (لمن لم يجد)؛ لأن القطع مع وجود النعل إفساد للخف، وإفساد المال ـ من غير حاجة ـ منهي عنه، بخلاف ما إذا عدم الخف، فلهذا جعل بدلا في هذه الحال لأجل فساد المال، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم في الصلاة فإنه/ يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه! ولكن عن شماله أو تحت قدمه) هذه رواية أنس. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد فأقبل على الناس فقال: (ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تخت قدمه، فإن لم يجد ـ قال هكذا ـ وتفل في ثوبه ووضع بعضه على بعض) فأمر بالبصاق في الثوب إذا تعذر لا لأن البصاق في الثوب بدل شرعي، لكن مثل ذلك يلوث الثوب من غير حاجة. وفي الاستجمار أمر بثلاثة أحجار فمن لم يجد فثلاث حثيات من تراب، لأن التراب لا يتمكن به كما يتمكن بالحجر لا لأنه بدل شرعي، ونظائره كثيرة، فدلت نصوصه الكريمة على أن الصواب في هذه المسائل توسعة شريعته الحنيفية،وأنه ما جعل على أمته من حرج. وكل قول دلت عليه نصوصه قالت به طائفة من العلماء ـ رضي الله عنهم ـ فلم تجمع الأمة ـ ولله الحمد ـ على رد شيء من ذلك؛ إذ كانوا لا يجتمعون على ضلالة، بل عليهم أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى الرسول وإذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، تبين كمال دينه وتصديق بعضه لبعض. وإن من أفتى من السلف والخلف بخلاف ذلك ـ مع اجتهاده وتقواه لله بحسب استطاعته ـ فهو مأجور في ذلك لا إثم عليه، وإن/ كان الذي أصاب الحق فيعرفه له أجران وهو أعلم منه، كالمجتهدين في جهة الكعبة. وابن عمر ـ رضي لله عنه ـ كان كثير الحج وكان يفتي الناس في المناسك كثيرًا، وكان في آخر عمره قد احتاج إليه الناس وإلى علمه ودينه؛ إذ كان ابن عباس مات قبله، وكان ابن عمر يفتي بحسب ما سمعه وفهمه؛ فلهذا يوجد في مسائله أقوال فيها ضيق، لورعه ودينه ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ وكان قد رجع عن كثير منها: كما رجع عن أمر النساء بقطع الخفين، وعن الحائض أمر ألا تنفر حتي تودع، وغير ذلك. وكان يأمر الرجال بالقطع؛ إذ لم يبلغه الخبر الناسخ. وأما ابن عباس فكان يبيح للرجال لبس الخف بلا قطع إذا لم يجدوا النعلين، لما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات. وكذلك كان ابن عمر ينهي المحرم عن الطيب حتي يطوف اتباعا لعمر. وأما سعد وابن عباس وغيرهما من الصحابة فبلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه تطيب لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، فأخذوا بذلك. وكذلك ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان إذا مات المحرم يري إحرامه قد انقطع، فلما مات ابنه كفنه في خمسة أثواب، واتبعه على ذلك/كثير من الفقهاء. وابن عباس علم حديث الذي وقصته ناقته وهو محرم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تقربوه طيبًا ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا) فأخذ بذلك، وقال: الإحرام باق، يجتنب المحرم إذا مات ما يجتنبه غيره وعلى ذلك فقهاء الحديث وغيرهم. وكذلك الشهيد. روي عن ابن عمر أنه سئل عن تغسيله؟ فقال: غسل عمر وهو شهيد. والأكثرون بلغهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد وقوله: (زملوهم بكلومهم ودمائهم، فإن أحدهم يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما: اللون لون دم والريح ريح مسك)، والحديث في الصحاح، فأخذوا بذلك في شهيد المعركة إذا مات قبل أن يرتث. ونظائر ذلك كثيرة. واتفق العلماء على أن المحرم يعقد الإزار إذا احتاج إلى ذلك؛ لأنه إنما يثبت بالعقد. وكره ابن عمر للمحرم أن يعقد الرداء، كأنه رأي أنه إذا عقد عقدة صار يشبه القميص الذي ليس له يدان، واتبعه على ذلك أكثر الفقهاء فكرهوه كراهة تحريم، فيوجبون الفدية إذا فعل ذلك. وأما كراهة تنزيه، فلا يوجبون الفدية، وهذا أقرب. ولم ينقل أحد من الصحابة كراهة عقد الرداء الصغير الذي لا يلتحف ولا يثبت بالعادة إلا بالعقد، أو ما يشبهه مثل الخلال وربط الطرفين على حقوه/ ونحو ذلك، وأهل الحجاز أرضهم ليست باردة، فكانوا يعتادون لبس الأزر والأردية، ولبس السراويل قليل فيهم، حتي إن منهم من كان لا يلبس السراويل قط، منهم عثمان بن عفان وغيره، بخلاف أهل البلاد الباردة لو اقتصروا على الأُزُر والأردية لم يكفهم ذلك، بل يحتاجون إلى القميص والخفاف والفراء والسراويلات؛ ولهذا قال الفقهاء: يستحب مع الرداء الإزار؛ لأنه يستر الفخذين. ويستحب مع القميص السراويل؛ لأنه أستر ومع القميص لا يظهر تقاطيع الخلق، والقميص فوق السراويل يستر، بخلاف الرداء فوق السراويل فإنه لا يستر تقاطيع الخلق. وأما الرداء فوق السراويل فمن الناس من يستحبه تشبهًا بهم. ومنهم من لا يستحبه لعدم المنفعة فيه؛ ولأن عادتهم المعروفة لبسه مع الإزار. ومن اعتاد الرداء ثبت على جسده بعطف أحد طرفيه، وإذا حج من لم يتعود لبسه وكان رداؤه صغيرًا لم يثبت إلا بعقده، وكانت حاجتهم إلى عقده كحاجة من لم يجد النعلين إلى الخفين. فإن الحاجة إلى ستر البدن قد تكون أعظم من الحاجة إلى ستر القدمين، والتحفي في المشي يفعله كثير من الناس. وأما إظهار بدنه للحر والبرد والريح والشمس فهذا يضر غالب الناس. وأيضًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المصلي بستر ذلك/فقال: (لا يصلين بالثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء). وتجوز الصلاة حافيًا، فعلم أن ستر هذا، إلى الله أحب من ستر القدمين بالنعلين؛ فإذا كان ذلك للحاجة العامة، رخص فيه في البدن من غير فدية فلأن يرخص في هذا بطريق الأولى والأحرى. فإن قيل: فينبغي أن يرخص في لبس القميص والجبة ونحوهما لمن لم يجد الرداء. قيل: الحاجة تندفع بأن يلتحف بذلك عرضًا مع ربطه وعقد طرفيه فيكون كالرداء، بخلاف ما إذا لم يمكنه الربط، فإن طرفي القميص والجبة ونحوهما لا يثبت على منكبيه. وكذلك الأرّدية الصغار، فما وجده المحرم من قميص وما يشبهه كالجبة، ومن برنس وما يشبهه من ثياب مقطعة، أمكنه أن يرتدي بها إذا ربطها، فيجب أن يرخص له في ذلك لو كان العقد في الأصل محظورًا، وكذلك إن كان مكروها. فعند الحاجة تزول الكراهة، كما رخص له أن يلبس الهميان لحفظ ماله، ويعقد طرفيه إذا لم يثبت إلا بالعقد؛ وهو إلى ستر منكبيه أحوج، فرخص له عقد ذلك عند الحاجة بلا ريب، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر فيما يحرم على المحرم وما ينهى عنه لفظًا عامًا يتناول عقد الرداء، بل سئل صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم من الثياب فقال: (لا يلبس القميص ولا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات/ولا الخفاف، إلا من لم يجد نعلين) الحديث. فنهى عن خمسة أنوع من الثياب التي تلبس على البدن وهى القميص، وفي معناه الجبة وأشباهها؛ فإنه لم يرد تحريم هذه الخمسة فقط، بل أراد تحريم هذه الأجناس ونبه على كل جنس بنوع منها. وذكر ما احتاج المخاطبون إلى معرفته، وهو ما كانوا يلبسونه غالبًا. والدليل على ذلك: ما ثبت عنه في الصحيحين أنه سئل قبل ذلك عمن أحرم بالعمرة وعليه جبة فقال: (انزع عنك الجبة واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت صانعًا في حجك). وكان هذا في عمرة القضية: فعلم أن تحريم الجبة كان مشروعًا قبل هذا ولم يذكرها بلفظها في الحديث. وأيضًا، فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال في المحرم الذي وقصته ناقته: (ولا تخمروا رأسه) وفي مسلم: (ووجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا)، فنهاهم عن تخمير رأسه لبقاء الإحرام عليه لكونه يبعث يوم القيامة ملبيًا، كما أمرهم ألا يقربوه طيبًا، فعلم أن المحرم ينهى عن هذا وهذا. وإنما في هذا الحديث النهى عن لبس العمائم، فَعُلِم أنه أراد النهى عن ذلك وعما يشبهه في تخمير الرأس، فذكر ما يخمر الرأس وما يلبس على البدن كالقميص والجبة، وما يلبس عليهما جميعًا وهو البرنس، وذكر ما يلبس في النصف الأسفل من البدن/وهو السراويل والثياب، والتبان في معناه. وكذلك ما يلبس في الرجلين وهو الخف، ومعلوم أن الجرموق والجورب في معناه، فهذا ينهى عنه المحرم فكذلك يجوز عليه المسح للحلال، والمحرم الذي جاز له لبسه فإن الذي نهى عنه المحرم أمر بالمسح عليه. وهذا كما أنه لما أمر بالاستجمار بالأحجار لم يختص الحجر إلا لأنه كان الموجود غالبًا؛ لا لأن الاستجمار بغيره لا يجوز، بل الصواب قول الجمهور في جواز الاستجمار بغيره كما هو أظهر الروايتين عن أحمد لنهيه عن الاستجمار بالروث والرمة، وقال: (إنهما طعام إخوانكم من الجن)، فلما نهى عن هذين تعليلًا بهذه العلة علم أن الحكم ليس مختصًا بالحجر وإلا لم يحتج إلى ذلك. وكذلك أمره بصدقة الفطر بصاع من تمر أو شعير -هو عند أكثر العلماء- لكونه كان قوتًا للناس، فأهل كل بلد يخرجون من قوتهم وإن لم يكن من الأصناف الخمسة، كالذين يقتاتون الرز أو الذرة، يخرجون من ذلك عند أكثر العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وليس نهيه عن الاستجمار بالروث والرمة إذنا في الاستجمار بكل شيء، بل الاستجمار بطعام الآدميين وعلف دوابهم أولى بالنهى عنه من/طعام الجن وعلف دوابهم، ولكن لما كان من عادة الناس أنهم لا يتوقون الاستجمار بما نهى عنه من ذلك؛ بخلاف طعام الإنس وعلف دوابهم فإنه لا يوجد من يفعله في العادة الغالبة. وكذلك هذه الأصناف الخمسة نهى عنها وقد سئل ما يلبس المحرم من الثياب، وظاهر لفظه أنه أذن فيما سواها؛ لأنه سئل عما يلبس لا عما لا يلبس، فلو لم يفد كلامه الإذن فيما سواها لم يكن قد أجاب السائل، لكن كان الملبوس المعتاد عندهم مما يحرم على المحرم هذه الخمسة ـ والقوم لهم عقل وفقه ـ فيعلم أحدهم أنه إذا نهى عن القميص وهو طاق واحد فلأن ينهى عن المبطنة، وعن الجبة المحشوة، وعن الفروة التي هى كالقميص، وما شاكل ذلك، بطريق الأولى والأحرى؛ لأن هذه الأمور فيها ما في القميص وزيادة فلا يجوز أن يأذن فيها مع نهيه عن القميص. وكذلك التُّبان أبلغ من السراويل، والعمامة تلبس في العادة فوق غيرها: إما قلنسوة أو كلثة أو نحو ذلك، فإذا نهى عن العمامة التي لا تباشر الرأس فنهيه عن القلنسوة والكلثة ونحوها مما يباشر الرأس أولى؛ فإن ذلك أقرب إلى تخمير الرأس والمحرم أشعث أغبر. ولهذا قال في الحديث الصحيح ـ حديث المباهاة ـ: (إنه/يدنوا عشية عرفة فيباهى الملائكة بأهل الموقف فيقول: انظروا إلى عبادى، أتونى شعثًا غبرًا ما أراد هؤلاء؟) وشعث الرأس واغبراره لا يكون مع تخميره، فإن المخمر لا يصيبه الغبار ولا يشعث بالشمس والريح وغيرهما؛ ولهذا كان من لبد رأسه يحصل له نوع متعة بذلك يؤمر بالحلق فلا يقصر، وهذا بخلاف القعود في ظل أو سقف أو خيمة أو شجر أو ثوب يظلل به، فإن هذا جائز بالكتاب والسنة والإجماع؛ لأن ذلك لا يمنع الشعث ولا الاغبرار وليس فيه تخمير الرأس. وإنما تنازع الناس فيمن يستظل بالمحمل؛ لأنه ملازم للراكب كما تلازمه العمامة لكنه منفصل عنه، فمن نهى عنه اعتبر ملازمته له، ومن رخص فيه اعتبر انفصاله عنه. فأما المنفصل الذي لا يلازم، فهذا يباح بالإجماع. والمتصل الملازم منهى عنه باتفاق الأئمة. ومن لم يلحظ المعاني ـ من خطاب الله ورسوله ـ ولا يفهم تنبيه الخطاب وفحواه من أهل الظاهر، كالذين يقولون: إن قوله: /كما أنه إذا قال في الحديث الصحيح: (والذي نفسي بيده لا يؤمن) ـ كررها ثلاثًا ـ قالوا: من يا رسول الله؟ قال: (من لا يأمن جاره بوائقه)، فإذا كان هذا بمجرد الخوف من بوائقه، فكيف من فعل البوائق مع عدم أمن جاره منه؟ كما في الصحيح عنه أنه قيل له: أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل للَّه ندًا وهو خلقك)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، قيل: ثم أي؟ قال: (أن تزاني بحليلة جارك)، ومعلوم أن الجار لا يعرف هذا في العادة، فهذا أولى بسلب الإيمان ممن لا تؤمن بوائقه ولم يفعل مثل هذا. وكذلك إذا قال: وكذلك إذا قال: فالتخصيص بالذكر قد يكون للحاجة إلى معرفته، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم. فتخصيص القميص دون الجباب، والعمائم دون القلانس، والسراويلات دون التبابين، هو من هذا الباب؛ لا لأن كل ما لا يتناوله اللفظ فقد أُذن فيه. وكذلك أمره بصب ذَنُوب من ماء على بول الأعرابي ـ مع ما فيه من اختلاط الماء بالبول وسريان ذلك لكن قصد به تعجيل التطهير ـ لا لأن النجاسة لا تزول بغير ذلك؛ بل الشمس والريح والاستحالة تزيل النجاسة أعظم من هذا؛ ولهذا كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك. وكذلك اتفق الفقهاء على أن من توضأ وضوءًا كاملا ثم لبس الخفين جاز له المسح بلا نزاع، ولو غسل إحدى رجليه وأدخلها الخف ثم فعل بالأخرى مثل ذلك ففيه قولان هما روايتان عن أحمد: إحداهما: يجوز المسح، وهو مذهب أبي حنيفة. /والثانية: لا يجوز، وهو مذهب مالك والشافعي.قال هؤلاء: لأن الواجب ابتداء اللبس على الطهارة، فلو لبسهما وتوضأ وغسل رجليه فيهما، لم يجز له المسح حتى يخلع ما لبس قبل تمام طهرهما فيلبسه بعده. وكذلك في تلك الصورة قالوا: يخلع الرجل الأولى ثم يدخلها في الخف، واحتجوا بقوله: (إني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان)، قالوا: وهذا أدخلهما وليستا طاهرتين. والقول الأول هو الصواب بلا شك. وإذا جاز المسح لمن توضأ خارجا ثم لبسهما فلأن يجوز لمن توضأ فيهما بطريق الأولى، فإن هذا فعل الطهارة فيهما واستدامها فيهما، وذلك فعل الطهارة خارجا عنهما، وإدخال هذا قدميه الخف مع الحدث وجوده كعدمه، لا ينفعه ولا يضره. وإنما الاعتبار بالطهارة الموجودة بعد ذلك، فإن هذا ليس بفعل محرم كمس المصحف مع الحدث. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدخلتهما الخف وهما طاهرتان) حق، فإنه بين أن هذا علة لجواز المسح، فكل من أدخلهما طاهرتين فله المسح. وهو لم يقل: إن من لم يفعل ذلك لم يمسح، لكن دلالة اللفظ عليه بطريق المفهوم والتعليل، فينبغى أن ينظر حكمة التخصيص: هل بعض المسكوت أولى بالحكم؟ ومعلوم أن ذكر إدخالهما طاهرتين؛ لأن هذا هو المعتاد، وليس غسلهما في الخفين معتاد، وإلا فإذا غسلهما/في الخف فهو أبلغ، وإلا فأي فائدة في نزع الخف ثم لبسه من غير إحداث شيء فيه منفعة؟ وهل هذا إلا عبث محض ينزه الشارع عن الأمر به؟ ولو قال الرجل لغيره: أدخل مالى وأهلى إلى بيتى ـ وكان في بيته بعض أهله وماله ـ هل يؤمر بأن يخرجه ثم يدخله؟ ويوسف لما قال لأهله: فإذا قيل: هذا لم يقع، قيل: وكذلك غسل الرجل قدميه في الخف ليس واقعًا في العادة فلهذا لم يحتج إلى ذكره؛ لأنه ليس إذًا فعل يحتاج إلى إخراج وإدخال. فهذا وأمثاله من باب الأولى. وقد تنازع العلماء فيما إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار، أو استجمر بمنهى عنه كالروث والرمة وباليمين: هل يجزئه ذلك؟ والصحيح أنه إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار فعليه تكميل المأمور به، وأما إذا استجمر بالعظم واليمين فإنه يجزئه؛ فإنه قد حصل المقصود بذلك ـ وإن كان عاصيًا ـ والإعادة لا فائدة فيها، ولكن قد يؤمر بتنظيف/العظم مما لوثه به، كما لو كان عنده خمر فأمر بإتلافها فأراقها في المسجد فقد حصل المقصود من إتلافها لكن هو آثم بتلويث المسجد فيؤمر بتطهيره، بخلاف الاستجمار بتمام الثلاث فإن فيه فعل تمام المأمور وتحصيل المقصود.
|